مجيء (تولستوي) و(دوستوفيسكي).
وتفوّق عليها في مجالات كثيرةٍ، رغم نشوئه الحديث في ذلك الوقت. (1)
(أب النثر الروسي الواقعي). وبالفعل، فلم يكن غوغول مجرد كاتب رفد الأدب
تورغنيف). وقد طرحت هذه المدرسة مبادئ ثورية، إذ نادت بضرورة نزول الأدب
إلى الشارع، وخروج الأديب من برجه العاجي إلى معترك حياة الشعب، وتصوير
البسطاء، وإعطاء الأدب مسحة ديمقراطية مضموناً ولغة وأسلوباً.
لقد عمّق غوغول واقعية (بوشكين)، النقدية، وأعطى صورة بانورامية حيّة
لروسيا الأقنان، المغلوبة على أمرها. روسيا بفقر إنسانها المسحوق، وظلم
وفساد هرم موظفيها وحكامها، كل ذلك بلغة حيّة مستقاة من الواقع، وبأسلوب
غاية في البساطة والإبداع، أو كما يسمى بـ(السهل الممتنع). أن أعمال غوغول
تضحكك من خلال الدموع، وتصور خبايا النفوس البشرية العميقة أصدق تصوير،
وترسم (البورتريهات)السلبية منها والإيجابية في قالب ساخر شائق.(2)
ويطوف بنا غوغول كل أنحاء روسيا، مصوراً وواصفاً الواقع كما هو، مع لمسة
شعرية رومانسية. وهو يتعمق في تطوافه في كل المناطق الغارقة في الجهل
والظلم والبؤس والفاقة. وقد كشف غوغول عن ذلك كله في قالب ساخر من رحلات
(تشيشيكوف) بطل رواية (النفوس الميتة). وكما في الرواية سخر من الواقع
المزري للفلاحين في الأرياف، ومن الفساد الإداري والوظيفي في المدن، سخر
أيضاً من كل ذلك في مسرحياته وخاصة مسرحية (المفتش). وقد حيَّر غوغول
النقاد في كل مكان، فقد اعتُبر دائماً ككاتب كلاسيكي، وظهر في القرن التاسع
عشر كمؤلف واقعي، وفي بداية القرن العشرين جرى التشديد على الأمور
الغريبة، وعلى الجوانب المضحكة من أعماله، ورآها بعضهم استباقاً للرمزية
والسيريالية. والواقع أن في مجمل ظاهرة غوغول تناقضاً ومفارقة. فمزاجه
وسيرته وحياته المهنية لا تقل غرابة من تراثه الفني. والتحدي الذي واجهه
المترجمون والنقاد هو أن ينصفوا في حكمهم على غرابته. (3)
ولكي نفهم غوغول على حقيقته، كما يقول بعضهم، يجب أن نلمّ بسيرة حياته
وأعماله وتطوراته الاجتماعية والنفسية، فهي خير معين لفهمه ومعرفته.
غوغول: حياته وأعماله
ولد (نيكولاي فاسيليفتيش غوغول) في (سوروتشنيتز) في (أوكرانيا) عام (1809).
كان أبوه يعنى بالتقاليد المحلية، حتى لقد كتب كوميديات باللغة
الأوكرانية، استفاد منها الابن فيما بعد. وقد قضى غوغول طفولة سعيدة، وتلقى
دراساته في مدرسة عادية في (ينجين). وقد اهتم غوغول في بداية حياته بالفن
والمسرح أيما اهتمام
وفي المدرسة اشتهر، خاصة، بمقدرته على التمثيل
وموهبته في ذلك. وكان يبزّ الجميع في التمثيل وأداء الأدوار النسائية بشكل
خاص، ويرسم الديكور للمسرح المدرسي. حتى إنه كان يقوم بالإخراج المسرحي.
وفيما بعد، كان غوغول يفيض على دور المسرح في العملية التربوية أهمية كبرى
فقد كتب يقول: إن المسرح مدرسة عظيمة، ورسالته في منتهى العمق، فهو يلقي
درساً مفيداً وحيّاً على جمهور بكامله، على ألوف الناس دفعة واحدة.
سافر غوغول عام (1828) إلى (بطرسبورغ) وفي قلبه طمعٌ جامح، لا طمع في المجد
الأدبي فحسب، فقد كان يحلم بأن يكون شيئاً مذكوراً في حياة بلاده. ولو أنك
نظرت إلى هذا الفتى الجنوبي، لطالعك منه وجه ضيّق، وأنف أعنب حاد، وعينان
قويتان نافذتان. وكان غوغول، ككثير من الأوكرانيين، ساخراً حالماً في آن،
خيالياً وواقعياً معاً. وقد أوتي موهبة الملاحظة والتقليد. إلا إنه على
خلاف أترابه، منطوٍ على نفسه، شديد الهياج، على غير استسلام للعاطفية، ولن
يكون في حياته نساء، ولن ترى في رواية من رواياته صورة حيّة لامرأة، إلا من
بعض العجائز. وكان مؤمناً، بل كان صوفياً في إيمانه، حتى لقد كتب إلى أمه
مبكراً: "إن الله يسّره إلى أعمال عظيمة" !
ولم يكن المنصب الهيّن الذي تهيأ له في (بطرسبورغ) أن يرضيه، وأن يروي ظمأه
إلى المجد. لقد كان يحلم في أن يعمل في التمثيل الذي عشقه منذ صغره، ثم ها
هو يبدأ في الأدب بقصيدة بعنوان (هانس كوشلجارتن) وهي قصيدة قصصية طويلة
نُشرت باسم مستعار عام (1829)، وفيها يقلد الكاتب (فوس)، إلا إنه ما يلبث
أن يحطمها بعد أول مقال نقدي تناولها.
ويهرب غوغول إلى خارج البلاد، وما يكاد يصل إلى(لدبك) حتى يقفل راجعاً. وفي
طريق العودة، بدا له أن يكتب موضوعاً جديداً في الأدب الشعبي الأوكراني،
فقد كان متأثراً جداً بما تلقاه من الأساطير الشعبية، والألوان المحلية،
ولاسيما كل ما هو أوكراني. فكتب كتابه المشهور(سهرات في المزرعة قرب
ديكانكا)عامي (1831- 1832). وقد أوصله هذا الكتاب فجأة، إلى مجد أدبي كان
قد يئس منه. كما أن هذا الكتاب أتاح له الوصول إلى الأوساط الأدبية، وجذب
إليه استحسان (بوشكين) وصداقته. ولعل أوصافه لأوكرانيا لم تكن دقيقة كل
الدقة فلقد أضاف إلى ذكريات طفولته شيئاً كثيراً مما يحفظ من حكايات
(هوفمان). ولا ننسى هنا أن نذكر بأن غوغول قد اختار الكتابة بالروسية وليس
بالأوكرانية فكل ما كتبه كان باللغة الروسية. وقد شجعه ما لقي من نجاح،
فقام برحلة جديدة إلى أوكرانيا، ينعش بها ذكرياته، ويعود منها بأفكار
جديدةٍ لمجموعة جديدة بعنوان (ميرغورود) ولقصص أخرى.
في عام (1833) بدأ غوغول كتابة أولى أعماله المسرحية الكوميدية، وكانت تحمل
عنوان (فلاديمير من الدرجة الثالثة) وفيها يقوم بتعرية الجهاز البيروقراطي
في (بطرسبورج). وقد كتبها لإيمانه بأن المسرح له رسالة يجب أن يؤديها، وإن
عروضه لا بد أن تكون ذات مضمون، وغنية بالأفكار.
ولكنه اضطر أن يتوقف عن الكتابة لأن ريشته لم تكن تطاوعه على حذف تلك الأماكن التي لا يمكن للرقابة أن تسمح بها.
ويذكر النقاد أن المدة الناشطة من حياة غوغول الأدبية كانت قصيرة بشكل
ملحوظ، وهي تندرج بين عملين من إنجازاته المركزية، يتميز أحدهما عن الآخر
جذرياً. الأول هو قصيدته الأولى (هانس كوشلجارتن) عام (1829)، التي ذكرناها
سابقاً، والثاني كتابه (مختارات من مراسلاتي مع أصدقائي) عام (1847)، وهو
خليط من الأبحاث الاجتماعية والأخلاقية والأدبية، المدونة بشكل رسائل،
والتي تم تقديمها، بعد خمس سنوات من الصمت، إلى جمهور متعطش لرؤية الجزء
الثاني من روايته الملحمية (النفوس الميتة). وبين هذين العملين تقع مدة
خصبة جداً دامت إحدى عشرة سنة من عام (1831) إلى عام (1842). فبالإضافة إلى
كتابه (سهرات في المزرعة قرب ديكانكا) كتب أيضاً المسرحية الشعبية
التهريجية (سوق سوروتشنسكي)، ثم الأوبرا القاتمة (الانتقام الرهيب)
والكوميديا الغريبة (إيفان وخالته) عام (1835)، و(ميرغورود) بنفس العام،
وكذلك روايته المشهورة (تاراس بولبا) الملحمة الشبابية التاريخية، ثم
رائعته (البيت القديم) وبعدها (الخصام بين اثنين كلاهما إيفان) وهي تنويع
لكوميديا حول التفاهة الإنسانية وفي عام (1835) أيضاً، نشر غوغول جزءاً
جديداً من (مزخرفات) وهي مزيج من الأبحاث والقصص المتخيلة ومن بينها (منظور
نيفسكي) و(صورة إنسان) و(يوميات مجنون) وجميعها تنتمي إلى حكايات
(بطرسبورج). ثم يأتي بعدها الرائعة المعروفة (الأنف) ويليها رائعته الأخرى
في القصة (المعطف) عام (1842). وله قصص وروايات جيدة، في هذه الفترة، منها
(الفيئي) التي يغلب عليها الطابع الخيالي، وقصته الفكهة (كيف ارتبك ايفان
إيفانوفتش مع إيفان نيكيفوروفتش) وهي تحوي روح ساخرة بارعة، ولكن الواقعية
راجحة فيها، وكذلك قصته (الملاكون في الزمن السالف الجميل).
ونعود الآن إلى الأثرين الخالدين، الذين أعطيا غوغول المجد والخلود، الأثر
الأول وهو رائعته المسرحية (المفتش) والتي تم عرضها الأول عام (1836).
والأثر الثاني هو روايته (النفوس الميتة)، التي صدر الجزء الأول منها عام
(1842) عقب عودة الكاتب من الخارج، بعد غياب دام ست سنوات. ونشير هنا إلى
أن غوغول كان ينوي أن يكتب هذه الرواية في ثلاثة أجزاء، الأول لتصوير روسيا
من جانب واحد، وهو الجانب السلبي. أما الثاني والثالث، فكان ينوى أن
يكرسهما لتصوير الجانب الإيجابي من روسيا. وكان للجولة التي قام بها في
أوكرانيا، والغوص في تفاصيل التاريخ والماضي لها، أثر جعله يتوهم أنه خلق
ليكون مؤرخاً. فطلب أن يُعيَّن أستاذاً للتاريخ في جامعة (بطرسبورج). وأجيب
إلى طلبه، دون أن يكون لديه مؤهل ثقافي في هذا الميدان. وقد أخفق في هذا
المجال إخفاقاً ذريعاً، وكان له صداه بين الناس. وعاد إلى الأدب.
وأخذ عندئذ يطبق في وصف حياة (بطرسبورج) الأساليب التي ضمنت له النجاح في
وصف الحياة الأوكرانية. ولكن لمّا كانت حياة العاصمة لا تحوي كثيراً من
الشعر، فقد زاد نصيب الواقعية في مؤلفاته التي يصف فيها حياة (بطرسبورج)،
وهذا ما نلاحظه في (نفسكي) و( يوميات مجنون) وخاصة في قصته الرائعة
(المعطف).
إن ما أوتيه غوغول من قوة الملاحظة، وروح الفكاهة، وحيوية الحوار، كانت
تؤهله لأن يكون كاتباً مسرحياً من الطراز الأول. إلا أن نجاح مسرحيته
(التغيير) قد أربكته ووضعته في موقف حرج. فقد استاء منها الرجعيون، وتحمّس
لها التقدميون، وأخذ هو يدافع عن نفسه صادقاً بأنه لم يشأ أن ينتقد نظم
بلاده، ولكن ذلك لم يجده شيئاً. ولكي يهرب من الضجة التي أثيرت حول
مسرحيته ترك غوغول روسيا عام (1836) ليعيش حياة متشردة في ألمانيا وفرنسا،
التي كره فيها تحرريتها الملحدة. وفي إيطاليا التي أحبّ شمسها، وأحب الجو
الديني الذي يشيع في عاصمتها (روما). وكان رفيق طريقه في كل حال ذلك
الكتاب، الذي بدأه عام (1835)، وهو أعظم آثار حياته، كما تحدثنا سابقاً،
وهو روايته (النفوس الميتة)، والتي قال هو فيها: "إن تاريخها هو تاريخ
نفسه". وكانت قد نشرت عام (1842). وما بين عامي (1843) و(1845) كتب الجزء
الثاني من النفوس الميتة ثم مزّقه، ثم عاد يكتبه، ولم يتبقَّ منه إلا بضعة
فصول حُفظت مسوداتها. وفي عام (1846) ظهر كتابه (مختارات من رسائلي إلى
أصدقائي) وكان لهذا الكتاب ضجة كبيرة، فقد كشف به غوغول عن حقيقة عقائده،
فظهر أنه محافظ وأنه صوفي. وتكلم فيه بلهجة النبي، داعياً روسيا إلى تجديد
حياتها وإيمانها وإلى أن تساعده على أن يجدد هو نفسه حياته وإيمانه.
سافر إلى (الأرض المقدسة) آملاً أن يجد فيها الوحي، فما زادته الرحلة إلا
شعوراً (بجفاف قلبه) فقرر فجأة أن يعود إلى روسيا، حتى يراها برؤية أعمق،
ويصورها تصويراً أصدق. وفي (بطرسبورج) اتصل به أحد الرهبان، وزاد في قلقه
واضطرابه، إذ أخذ يحدثه عن أن المطامع الأدبية أمر باطل لا قيمة له. وأخذ
الفنان والمتقشف يتنازعان قلب غوغول. حتى إذا أتى يوم (12) شباط من عام
(1852) أحرق غوغول كل ما كان قد كتبه من الجزء الثاني من (النفوس الميتة).
وأرهقه التقشف والصيام، فمات بعد ذلك بأيام. وهكذا انطفأت شعلة وقادة من
العبقرية والإبداع، بعد أن أضاءت روسيا لفترة من الزمن نعمت فيها بنور
عطائه وإبداعه وعبقريته.(4)
غوغول الروائي:
كان (بوشكين) و(ليرمنتوف) روائيين بارعين، إلا أن المبدع الحقيقي للرواية
الروسية إنما هو غوغول. وبقدر ما كان غوغول روائياً بارعاً، كان أيضاً
شاعراً ومسرحياً بارعاً. وقد رأيناه من بداية حياته يهتم بالشعر كثيراً،
حتى إنه ألف كتابه الأول (هانس كوشلجارتن) بالشعر، والذي هو عبارة عن قصيدة
قصصية طويلة. إلا إنه كان يعتبر شاعراً تقليدياً، ومؤلفاً هجائياً، مع أن
شعره المحفوف بالغموض في إبداعاته متعالية بشكل عريض على هدف الهجاء. (5)
ولكن غوغول لم يستمر بالشعر، وتحول إلى النثر في مجال الرواية والمسرح، وإن
ظلت الروح الشعرية مهيمنة على كل كتاباته بشكل ظاهر. وبراعة غوغول في القص
والرواية تنبع من داخله، من قوة الملاحظة، وروح الفكاهة، وإحساسه المرهف
بالمشاعر الإنسانية، ودقة تصويره للواقع، وإبرازه الصادق للحالات الإنسانية
حوله. وهو يكتب عن ذلك بأسلوب غاية في البساطة، وبثوب فكاهي ساخر، ولكنها
الفكاهة، التي يقول عنها دائماً، "إثارة الضحك عبر الدموع التي يراها
قراؤه".
وفي كتابه الأول، الذي فتح له أبواب الشهرة الأدبية (سهرات في المزرعة قرب
ديكانكا) نرى حياة طافحة فياضة، وفكاهة رشيقة يمازجها خيال واسع، على عذوبة
وحلاوة، وإنه ليصل في كتابه (سوق سوروتشينتز) إلى ذروة الفكاهة، فكاهة
تغرقك في الضحك فلا تستطيع إلى مغالبته سبيلاً. وتحس في ذلك كله، أن الكاتب
بارع في رسم كاريكاتير واقعي، وفي رسم لوحات رومانتيكية جميلة، إن أعوزتها
التفاصيل فلا تعوزها الصور الغنية، والروح الغنائية.(6) وفي أعماله
الأخرى، يتنقل غوغول ما بين العنصر الخيالي إلى الواقعية، ومن الفكاهة إلى
السخرية وقد تختلط كل هذه الأشياء بلون عاطفي جذاب. أما رواية (تاراس
بولبا) فهي تصور الماضي البطولي لأوكرانيا، في صفحات رومانتيكية جداً، رغم
أنها ليست صحيحة كل الصحة من الناحية التاريخية، إلا أنها تفيض حياة
وألواناً، وأوصافاً زاهية للمراعي المزهرة.
وعندما انتقل إلى العاصمة (بطرسبورغ) بدأت كتاباته تكتسي بالواقعية وبشيء
من الحزن والقتامة، وهذا ما نلاحظه في (نفسكي، ويوميات مجنون)، وخاصة في
قصته الشهيرة (المعطف). وهي قصة موظف بسيط، يُسرق معطفه الجديد منذ الليلة
الأولى، بعد أن اشتراه وحلم به طويلاً، وقد قتّر على نفسه أشد التقتير
ليوفر ثمنه. وتجري الأحداث ضمن صفحات رائعة تصور الحياة اليومية لهذا
الموظف المسنّ المسكين وهي صفحات جعلت (دستوفسكي) يقول: "إن القصة الروسية
قد خرجت من معطف غوغول" إن فيها رقة عميقة من الشفقة ومن الرحمة، جعلت
موظفاً شاباً يقول لنفسه فجأة، بينما كان الناس من حوله يسخرون من (أكاكي
أكاكيفتش) "إن هذا الإنسان هو أخي" (7)
والشيء الجديد والملاحظ، في هذه القصة التي أبدعها غوغول أن الشخصية
الرئيسية فيها هي (بطرسبورج)، التي تعرض وكأنها موطن اللامعقول والشر
الشيطاني، والمكان الذي تدان فيه النفوس الحساسة والبريئة، والذي تستمر
حيّة فيه، وتزدهر الكائنات التي لا نفس لها. وسيتابع (دستوفسكي) ويوسع هذا
التصوير فيما بعد، كما سيفعل الرمزيون أيضاً مثل ذلك عند منعطف القرن
التاسع عشر. (8)
والمشروع الذي وقف غوغول نفسه عليه، هو رواية (النفوس الميتة)، التي بدأها
في عام (1835) بناء على إلحاح (بوشكين) الذي ذكره بأن الناس ما كانوا
ليتذكروا (سيرفانتس) لولا عمله العظيم (دون كيشوت)، وقد حفظ غوغول الوصية
ونفذها بإصدار الروية عام (1842) والقصة تجري في قلب البلاد الروسية،
وتتركز على محتال اسمه (تشيتشيكوف) شرع في شراء الأقنان الميتين (النفوس
الميتة) لكنهم ما يزالون مسجلين في سجلات الإحصاء. ومازال أصحابهم يدفعون
ضريبة عنهم. وهذا المحتال يستفيد من سنوات امتلاك السادة للعبيد الذين
ماتوا، باقتراض مبالغ من المال من البنوك على أساس رهن هذه السنوات.
وقد مكنته إقامته في المدينة من إقامة علاقات مع زمرة من الملاكين المضحكين
الموسوَسين، الذين يحاصرهم هاجس رئيسي ينعكس في إدارة أملاكهم كما ينعكس
في سلوكهم. وهذه الرواية تجعل القارئ يتساءل: "هل هذا الرجل المحتال أقل
شرفاً من أولئك الموظفين في المدن الصغيرة؟ ومن أولئك الملاكين في القرى؟
أي من أولئك الذين كان يعقد معهم صفقاته التجارية المنحطة؟ وهؤلاء الناس
الذين كان يتعامل معهم (تشيتشيكوف) كثر ومن أصناف مختلفة، منهم البخيل،
والخسيس، والغشاش، والكسول، والقاسي، الماكر، وغيرهم. وكان (تشيتشيكوف)
يعامل كلاً من هؤلاء الناس على حسب طبعه، فطرائقه في مداورتهم تختلف
باختلاف كل منهم. فنرى الحديث الذي يدور بينه وبينهم جديداً في كل مرة ونحس
له في كل مرة مذاقاً جديداً إلا أن أحداً من هؤلاء لا يستطيع بوثبة من
الشرف أن يرفض العرض المشبوه الذي يتقدم به هذا المحتال. إن جميع هؤلاء
الناس غارقون في حمأة المصالح المادية. إن جميع هؤلاء الأحياء (نفوس ميتة).
لقد كانت الرمزية هنا، عند غوغول واضحة، لدرجة أن (بوشكين)، بعد أن قرأ
الفصول الأولى من الرواية لم يسعه إلا أن يصرخ: "يا إلهي! ما أبأس بلادنا،
وما أبأس هذه الروسيا!" وقد أجمع التقدميون والرجعيون كلاهما على أن يروا
في هذه القصة المرحة تصويراً مؤلماً للواقع الروسي وقد ظلت رواية (النفوس
الميتة) من غوغول إلى (دستوفسكي) تحدد ملامح الرواية الروسية مدة طويلة.
إنها واقعية قبل كل شيء، وهي تصف الأفراد، ولكنها تصف أكثر من ذلك البيئة
التي يمثلها الأفراد. (9) وكما ذكرنا سابقاً فإن غوغول لم يرض عن الجزء
الثاني فمزّقه، أما الجزء الثالث فإنه لم يبدأه أبداً، وذلك لأنه توفي بعد
عشرة أيام من إحراق الجزء الثاني. ويُرجع النقاد أن يكون السبب الذي دعا
غوغول إلى حرْق هذا الجزء هو فشله في العثور على البطل الإيجابي في عالم
(النفوس الميتة) وعدم بحثه في صفوف الشعب. وهكذا فقد جاءت شخصيات الجزء
الثاني إيجابية الشكل، ولكنها تفتقر إلى القدرة على الإقناع، ولا غرابة في
ذلك فهي مصطنعة، إنها شتلات من مستنبت غريب، يستحيل أن تتعايش مع الوسط
الجديد وأن تتكيف فيه. (10).
غوغول المسرحي:
إن غوغول الذي يتفق النقاد على عدِّه أعظم كاتب كوميدي في روسيا هو في
الوقت نفسه، أحد مبدعي الرواية الروسية الحديثة. فكما أبدع في مجال
الرواية، أبدع كذلك في مجال المسرحية. وكما قال أحدهم: "لو لم يكن لغوغول
إلا (المفتش) لكفى به أن يعد كاتباً مسرحياً عالمياً". والمعروف عن روسيا
أنها تفوقت في مجال الرواية أكثر بكثير مما تفوقت في مجال المسرح. ففي
النصف الأول من القرن التاسع عشر كان المسرح الروسي لا يزال في طور
التأسيس، على الرغم من ظهور بعض المسرحيات الرائعة مثل (ذو العقل يشقى)
للمؤلف (غريبا يدوف) ومسرحية (نيد الأحمق) للمؤلف (غونفيزن) بالإضافة إلى
مسرحيات (بوشكين) الشعرية. ولكن هذا المسرح لم يبلغ سنّ الرشد إلا في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، على يد (استروفسكي) ومن أتى بعده. وعلى الرغم
من قلة المسرحيات الروسية، فإن المسرح كان يتمتع بجمهور واسع، سواء في
صفوف النبلاء أو في صفوف الشعب، ففي العديد من الصالونات، والأسواق العامة،
كانت تقدم العروض المسرحية الروسية منها والأجنبية. لذلك وجدنا غوغول
يهتم، منذ صغره، بالمسرح اهتماماً كبيراً، كم ذكرنا، وقد انصرف بطبيعته،
حين كبر، إلى هذا الفن، وسار في هذا الطريق. وجرب نفسه أولاً في مسرحيات
صغيرة هزلية، مثل مسرحية (صليب القديس فلاديمير) و(الزواج)، وهذه الأخيرة،
دراسة فكهة لبيئة البائعين ولخطيب متردد لا يعرف كيف يعزم أمره. ثم انتقل
بعد ذلك إلى المسرحية الناقدة فكتب عام (1833) مسرحية (فلاديمير من الدرجة
الثالثة) وفيها يقوم بتعرية الجهاز البيروقراطي في (بطرسبورج)، ثم مسرحية
(التغيير) التي سببت له الإرباك، فالرجعيون عارضوها، بينما أيّدها
التقدميون، وأخذ هو يدافع عن نفسه بحرارة وأنه لم يقصد أن ينتقد نظم بلاده.
لذلك ترك البلاد وسافر إلى أوروبا عام (1836) ليتخلص من كل الإشكالات.
وكتب غوغول بعض المسرحيات الأخرى، ولكنها لم تكن قوية ومؤثرة مثل مسرحيته
(المفتش). فبواسطة هذه المسرحية (المفتش) دخل غوغول إلى المسرح الروسي من
بابه العريض. وتُصنَّف هذه المسرحية في عداد عيون المسرح العالمي، ولا تزال
تعرض على خشبات المسرح في مختلف أصقاع العالم، إما كما هي، أو مقتبسة أو
محوّرة، ولا غرابة في ذلك، فالصور التي تقدمها تكاد تخرج من بين السطور
لتتقمّص شخصيات من واقع العالم.
وكما كان (بوشكين) المشجع لغوغول في كتابة روايته الرائعة (النفوس الميتة)
كان هو أيضاً صاحب فكرة مسرحية (المفتش) ففي السابع من تشرين الأول من عام
(1835) كتب غوغول يطلب من (بوشكين): اعمل معروفاً، أعطني موضوعاً بأسرع من
لمح البصر، سيكون كوميدياً في خمسة فصول وأقسم أنها ستهز الشيطان إضحاكاً.
وكان (بوشكين) عند حسن ظن غوغول به فأعطاه الفكرة التي أرسى عليها غوغول
مسرحية (المفتش). وقد كتبها خلال فترة قصيرة نسبياً وعرضت في (19) نيسان
عام (1836) على خشبة مسرح (ألكسندر يفسكي) في (بطرسبورج) العاصمة. ويقول
غوغول عن مسرحيته هذه: "أردت أن أجمع فيها، في كومة واحدة، كل ما كنت أعرف
في روسيا من قبح، وكل ما كان يمارس فيها من جور وظلم" وقد جاءت مسرحية
غوغول وحيدة من نوعها، فأحداثها لا تتمحور، كما كانت التقاليد المسرحية
والروائية، حول موضوع الحب والمغامرات العاطفية، ولا حول مصير أفراد من
الناس، عابرين. والبطل هنا ليس الحب، ولا العلاقات الخاصة، إنه النظام
الاجتماعي القائم، والبلدة التي تدور فيها الأحداث، يمكن أن تنسحب على أية
مدينة في روسيا.(11)
لقد امتلك غوغول في هذه المسرحية ناصية الفن المسرحي، وبلغ فيه غاية النضج.
واستطاع أن يمسك بخيوط الأحداث بمهارة، وأن يوجه الشخصيات نحو الفكرة التي
رسمها، بشكل أذهل كل من شاهدها أو قرأها. فالمسرحية تبدأ بوصف حالة الذعر
والخوف التي استبدت بجميع شاغلي درجات السلم الوظيفي بدءاً من الشرطي
الصغير وصولاً إلى المدير الكبير. فالكل يخاف وصول المفتش، والكل يريد
التستر على عيوبه ونواقصه. ومن خلال جلسة العمل، التي عقدها الطاقم
البيروقراطي، بكامل أعضائه، تتكشف أمامنا حقيقة هؤلاء الموظفين إنهم مجرد
لصوص وحرامية ومرتشين كل لا يجارى في اختصاصه، وكل يحاول الحصول على أكبر
نصيب من (الكعكة). وتظهر شخصياتهم عارية، بدون مكياج أو رتوش.
فلا نرى إلا التفاهة، والنذالة، والأنانية، والنفاق، والكذب، والجهل
والنمائم. (12) وها هم يحتفلون بالمفتش المزعوم، ويتبارون في إكرامه ثم لا
تظهر حقيقة الأمر إلا بعد سفره. إن ما في هذه العقدة من قوة هزلية أخّاذة،
وما في تصوير الشخصيات من فن كاريكاتوري رائع، كل ذلك لا يخفي الألوان
القاتمة، التي تصطبغ بها هذه اللوحة. فجميع الموظفين، أناس لا أخلاق لهم
ولا ذمة ولا ضمير. إنهم ليبلغون في ذلك مبلغاً يبعث على الاشمئزاز إلى أبعد
حد. وقد كان تأثير هذه المسرحية كبيراً جداً إلى درجة أن المؤلف نفسه قد
هاله الأمر، فلم يسعه إلا أن يعلن بأنه لم يكن له من غاية إلا أن يضحك
الجمهور. (13).
وعلى الرغم من الطابع السلبي الذي يخيم على هذه المسرحية، فإنها مشبعة
بالشعبية والوطنية اللتين تتجليان من خلال تعرية النظام البيروقراطي
الاستبدادي، ومن خلال تشريح روسيا القيصرية المريضة.
المصدر : الباحثون العدد 58 نيسان 2012